المقالات
منافع الحج

بتاريخ: 1435-11-30هـ | المشاهدات: 3967 | الادوات: Bookmark and Share


هيئة التحرير

قال تعالى: (( وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم )) .
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسل رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه الهداة المهتدين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
الحج إلى بيت الله الحرام عبادة جليلة فرضها الله تعالى في كتابه الكريم فقال تعالى : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) ، وهو ركن من أركان الإسلام التي بني عليها قال رسول  صلى الله عليه وسلم : (( بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان )) ، والحج هو القصد إلى بيت الله الحرام لأداء عبادة مخصوصة ذات أفعال مخصوصة في أماكن مخصوصة
كما ان الحج من العبادات التي قد يظهر للناظر المستعجل أن فيها مشقة وكلفة ومن ذلك :
1- مشقة السفر وفراق الأهل والأحبة والأوطان
2- حظر ملاذ النفس وشهواتها أثناء التلبس بهذه العبادة فلا ينكح المحرم ولا يتطيب ولا يلبس المخيط ولا يرفث ولا يفسق ولا يجادل انتصارا لنفسه.
3- محدودية المكان والزمان فلا يستطيع الحاج أن يؤدي هذه العبادة إلا في مكانها المخصوص وزمانها المحدد لها.
ولما كان في الحج بعض مشقة هون الله أمره وخففه ويسره بتيسيرات عدة منها :
1-   أنه على المستطيع قوتا وقوة
2-   أنه عبادة قديمة فرضها الله على من قبلنا حيث انه إذا عم الأمر هان وسهل .
3-   أنه يتم في أيام معدودة قد لا تتجاوز الأسبوع لمن هو خارج مكة فكيف بمن جاورها .
4-   أنه لا يجب إلا مرة واحدة في العمر كله
5-   أن الله عز وجل علق القلوب بحب هذا البيت وجعل الأفئدة تهوي إليه استجابة لدعاء إبراهيم الخليل عليه السلام حين دعا لهذا البيت فقال (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ) ؛ والوصول إلى الحبيب ينسي كل عنت ومشقة.
6-   أن الله عز وجل علل الأمر بقصد هذا البيت بحصول المنافع للقاصد حتى كأنه لم يأمره بهذا القصد إلى لتحصيل تلك المنافع فقال تعالى ( وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم )وقد نكر المنافع لتعم كل منافع الحج الدنيوية والأخروية ؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال ( ليشهدوا منافع لهم ) منافع الدنيا والآخرة أما منافع الآخرة فرضوان الله ، وأما منافع الدنيا فما يصيبون من منافع البدن والتجارات 
وقال الطبري : بعد أن ذكر الخلاف في تعيين هذه المنافع هل هي منافع دنيوية أم أخروية أم هما معا؟ وأولى الأقوال بالصواب قول من قال : عني بذلك ليشهدوا منافع لهم من العمل الذي يرضي الله والتجارة ؛ وذلك أن الله عم لهم منافع جميع ما شهد له الموسم ويأتي له مكة أيام الموسم من منافع الدنيا والآخرة ولم يخصص من ذلك شيئا من منافعهم بخبر ولا عقل فذلك على العموم في المنافع التي وصفت
وقال الزمخشري :نكر المنافع ؛لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات،وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه كان يفاضل بين العبادات قبل أن يحج فلما حج فضل الحج على جميع العبادات لما شاهد من تلك الخصائص
والذي دلت عليه هذه الآية هو أن الله عز وجل جعل في الحج منافع كأنه لم يأمر به إلا لتحصيلها ؛ لما تقتضيه اللام في قوله تعالى ( ليشهدوا ) من التعليل ، ثم هي منافع للحاج خالصة لا يشركه فيها غيره كما يدل عليه التعبير بـ( لهم ) 
وإنك لتعجب من هذا الأسلوب الحكيم وهذا الانتقال من تصور حال الحاج وهو أشعث أغبر قد أتي من فجاج الأرض وأنهك مركوبه ( يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ) ليفاجئك السياق قبل أن تتساءل عن سر عبادة تكلف هذا العنت الظاهر بأن هذه المشقة لا تفي بما جعل في هذه العبادة من منافع دنيوية وأخروية تضرب لها أكباد الإبل فلا يفي ذلك بشكر التوفيق للخروج لها والاصطفاء للتوفيق لأدائها والفوز بمنافعها الجمة ( ليشهدوا منافع لهم ) فتتساءل عن هذه المنافع في لهفة واشتياق.
وأنا في هذا المقال لا أستطيع تعداد منافع عبر عنها الخالق بهذه الصورة العامة ولم يحصرها ولا حصرها رسوله  صلى الله عليه وسلم  في منافع محددة معلومة،وإنما يتم للمفسر الكشف عن تلك المنافع بقدر ما يفتح الله له من فهم في كتابه ، وهو أمر متجدد لا يأخذ منه المتقدم ما هو مذخور لمن بعده ، ويبقى النص الكريم على عمومه ( ليشهدوا منافع لهم ) يغترف منه كل وارد بحسب دلوه وسقائه ، فلم يبق لي إلا محاولة التعرف على بعض تلك المنافع مستدلا على ما أذكره منها بما تيسر من معنى يعضدها من كتاب الله عز وجل أو سنة نبيه  صلى الله عليه وسلم  فأقول ومن الله ألتمس العون والتسديد .
من المنافع التي تدخل في عموم هذه الآية الكريمة المنافع الآتية : 
أولا - التوفيق لإكمال المسلم دعائم دينه
ثانيا : تعود الانقياد والاستلام لأوامر الله عز وجل وإن لم يظهر لعقلك وجه الحكمة فيها ؛ فأنت أخي الحاج في هذا المكان المخصوص من بين بقاع الأرض كلها ،ولأداء هذه العبادة في هذا الوقت المحدد لها ، وتطوف بهذا البيت ، وتقبل هذا الحجر ، وترمي الجمرات ، كل ذلك انقيادا لأمر الله عز وجل بذلك ، فيهون عليك تنفيذ كل الأحكام الشرعية وإن لم يظهر لعقلك وجه الحكمة منها ، وتنقاد لكل ما من شأنه أن يعلي هذا الدين وإن لم يظهر لك أنت ما ظهر لغيرك في ذلك.
ثالثا : التذكير ببعض الأمور المرحلية التي سيمر بها المرء لا محالة ، كالموت والبعث والجزاء فيعد لها العدة اللازمة من زاد ومركب ينجيه من مهالك الطريق ويجنبه عثراته ، وفي الحج صور مصغرة لبعض تلك الأمور المرحلية؛ فأنت بخروجك ، أخي الحاج من بلدك لابسا ثوب الإحرام ، وقد سكب الأهل العبرات عند توديعك تتذكر خروجك من بينهم من دار الدنيا إلى الدار الآخرة خروجا لا لقاء بعده في هذه الحياة فيهون عليك هذا الخروج الذي ترجو بعده اللقاء والوصال وتعد العدة لذلك السفر كما تعدها لهذا السفر ، وأنت بعد في مهلة من أمرك ؛ وبوقوفك بصعيد عرفة في هذا الجم الغفير تتذكر موقفك في الحشر حين يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد ينفذهم البصر ويسمعهم الداعي ،وتدنو الشمس ويلجم الناس العرق ويشتد الكرب والخطب فتعد العدة لذلك الموقف أنت ما زلت في مهلة من أمرك.
رابعا :‍‍ غفران الذنوب لمن حج هذا البيت مخلصا لله في حجة متبعا أوامر الله ومجتنبا نواهيه
خامسا : الفوز بالوقوف في صعيد عرفة في ذلك اليوم العظيم والمكان المشهود عشية يدنو الرب جل وعلا فيباهي بأهل ذلك الموقف ملائكته ، ويغفر الذنوب ، ويصفح عن الزلات ويحقق الآمال والمطالب ، ويعتق الرقاب من النار
سادسا: نفي الفقر والذنوب ، فعن ابن مسعود أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  قال : (( تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة ، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة ))
سابعا: أن الحج موسم تجارة وحصاد عالمي حيث المكان الذي تجبى إليه ثمرات كل شيء كما نطق به قوله تعالى ( وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون )
ويبدو من السياق الكريم والأحاديث النبوية أن الحج قد عرفته العرب سوقا عالمية ومعرضا للإنتاج والحصاد السنوي فلما أمروا بالحج على ما شرعه الله تحرجوا مما كانوا يزاولونه في هذا الموسم من أمور التجارة ورغبوا أن يكون موسما خالصا للذكر والدعاء فجاء القرآن ليرفع ذلك الحرج الكامن في نفوسهم من كل ما هو موروث جاهلي فقال تعالى ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم )
أن الحج مؤتمر ديني كبير فيه يجتمع المسلمون من كل بقاع الأرض لتأدية هذه العبادة العظيمة فتمتلئ بهم الجبال والسهول ، وتسيل بهم البطاح والأودية في موكب مهيب هتافهم واحد رغم اختلاف الأجناس والألسنة فالكل يردد:((لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)) ؛ فتظهر بذلك مقومات وحدة هذه الأمة في تلاحمها وتآزرها وعبادتها ولغتها ، وهي العناصر الأساس التي تحفظ للأمة قوتها وسيادتها وهيبتها بين الأمم .
تاسعا : أن الحج موسم دعوي كبير فيه يتوافد المسلمون من كل أقطار الأرض فيجتمعون في أفضل الأيام وأطهر البقاع في جو من الرقة واللين والانكسار بين يدي الله تعالى والاطراح ببابه ليغفر الذنوب ويصفح عن الزلات ويحقق الآمال ويقيل العثرات ؛ ومؤمن بهذا الحس لا شك أنه على أتم الاستعداد لتحقيق ما يأمره به ربه ، وكيف لا وهو إنما بذل المال وتحمل الصعاب من أجل أن يرضى عنه مولاه ويقبله؛ فعلى الدعاة المخلصين أن يغتنموا هذه الفرصة ولا يضيعوها فيعلموا الحاج قبل أن يرجع إلى موطنه وتكتنفه شياطين والإنس والجن أن الذي يغفر الذنوب هنا هو الذي يغفرها هناك ، وأن المعبود هنا هو المعبود هناك ، والذي أمر بالحج هو الذي أمر بالصلاة والزكاة والصوم ونهي عن الربا وكل المحرمات ما ظهر منها وما بطن ،وأن الشعور بالأخوة والتلاحم والتراحم هنا أمر مطلوب هناك .
عاشرا : أن الحج مؤتمر كبير فيه تلتقي كل الفئات المؤمنة من كل الطبقات المفكرة الفاعلة ، يتباحث فيها المجتمعون كل ما من شأنه أن يرفع شئن الأمة ، ولقد كان الحج في عهد الخلفاء وأيام وحدة الأمة موسما يلتقي فيه الخلفاء بأمراء الأمصار وقادة الجيوش فترفع التقارير إلى الخلفاء وذوي الرأي والمشورة ليتخذوا فيها القرارات المناسبة ؛ فظلت الأمة مرهوبة الجانب ، وظل الحج مصدر خوف وقلق لأعداء الأمة ؛ لما يمثله للأمة من وحدة يرهبها الأعداء ويهابونها.
الحادي عشر: أن الحج مؤتمر اجتماعي فريد يربي في النفوس كل المعاني الاجتماعية التربوية ؛ففيه ترى التعاون والمواساة وحنو الغني على الفقير ورحمة القوي بالضعيف والكبير بالصغير ،والتجرد الكامل من مظاهر الفوارق الطبقية الدنيوية ، فالكل في صعيد واحد متجه إلى الله عز وجل بكل ذل وفقر وحاجة قد خلع الجاه والأوسمة والمناصب الدنيوية؛فتذوب تلك الفوارق ولو إلى حين فيستفيد المسلمون من دروسها العبر والتوجيهات التربوية الفريدة.
وفي الحج يجتمع هذا الحشد الهائل من كل طبقات الناس وأجناسهم فتزدحم بهم الطرقات وتغص بهم الأماكن العامة والخاصة ومع ذلك فلا شجار ولا جدال ولا رفث ولا فسوق ولا تنافر فالكل مبتسم لأخيه فرح بوجوده إلى جانبه في هذه العبادة العظيمة فلا تسمع إلى قول قائلهم عن هذا البيت المزدحم بالناس : " زاده الله شرفا".
وفي هذا الجو المفعم بروح الأخوة والتلاحم والإيثار يراجع المرء نفسه ويتخذ من خلقه فيه خلقا دائما مع إخوان له طالما ضاق بهم في أماكن أقل ازدحاما وتعبا ، وفقراء طالما ضن عليهم بأقل مما أنفقه هنا.
تلك هي أهم المنافع التي سنح الخاطر المكدود بتسجيلها ويبقى التعبير القرآني أشمل وأوسع وتبقى المنافع الدنيوية والأخروية أعم:((ليشهدوا منافع لهم))،وقد يدرك المرء في ذلك من المنافع الفردية ما لا يدركه غيره من توفيق لذكر الله في تلك الأماكن الفاضلة أكثر من غيره ،أو توفيق لدعاء ويسمع ويستجاب،أو إغاثة لملهوف أو إعانة ضعيف أو إطعام جائع أو إرشاد ضال أو تعليم جاهل إلى غير ذلك من المنافع العظيمة التي جعلها الله عز وجل في هذه العبادة العظيمة، ومن هنا يمكننا أن ندرك معنى ما روي عن الإمام أبي حنيفة رحمه من أنه كان يفاضل بين العبادات قبل أن يحج فلما حج فضل الحج على العبادات كلها لما شاهده من تلك الخصائص والمنافع .
وفي الختام يجدر بنا التنبيه إلى أن كل دعائم الإسلام وواجباته مليئة بالتيسير والمنافع كما في الحج مما جعل هذه الدعائم والواجبات منحة ومنة لا تكليفا ومشقة؛فالصيام مثلا قد لا يبدو للناظر فيه إلا وجه المشقة في الإمساك عن الشهوات من مأكل ومشرب ومنكح وحب الانتصار للنفس والانتقام لها .

منقول من موقع صيد الفوائد